هو اليوم الوحيد الذى أحس فيه حامد بتثاقل بدنه النحيف الأسمر المحمر من شمس الصيف وبرودة الشتاء التى تمر عليه تباعاً مع سنواته التى يقضيها بين الجبال موطنه ,والتى يظن بأنها هى الدنيا كلها ولاوجود لغيرها ونعذره لذلك لانه ولد فيها وترعرع فى كوخه (حوشه) القديم الذى وجد نفسه يسكنه مع أبيه وأخيه امحمد بين تلك الجبال هكذا يسمونها مع أنها تلال فى المعنى العلمى الجغرافى .
هذا التثاقل الذى اصابه لم يعرف له معنى ,,منذ خمسة وعشرون سنة للمرة الاولى التى يشعر فيها بعدم الرغبة فى ان يسرح وراء أغنامه أو أغنام والده بالمعنى الاصح ,,,نظر الى الشمس وهى تمد أشعتها الذهبية والتى تندر بيوم حافل بالحر,,فكر ملياً وهو يحك عينيه المليئة بغبار اليوم المنقضى (يجب أن أنهض قبل عودة ابى واخى من السوق) فلو رجع الاب ووجده لايزال فى البيت فإنه سينال عقاب شفوى مؤلم أو عقاب بدنى بالغ .
للمرة الاولى يمد عصاه ويضرب بها أغنامه التى احبها كعائته .
لم تفارقه تلك الصورة التى رأها أول مرة ويتمنى ألا تكون الاخيرة فى القرية الوحيدة القريبة منهم على بئرها الوحيد والذى يروي جميع سكانها .
لم يعرف سر دقات قلبه المتتالية والتى كان لايعير لها اى اهتمام.
(أأأأأه نسيت انى لم أنم جيداً ليلة البارحة ) لقد نظر كثيراً الى القمر الذى صار عنده له بريقاً وألقاً جديداً لم يعهده من قبل وقد شعر بخجل حتى مع داته أن يفكر بأنه يرى صورة إنسان فيها يسامره فى ليله.
جلس مع غنمه فى تلة لايزال الندى يلفها ببرودة عليلة حتى ارتفعت الي انفه رائحة الزعتر وأزاهير الرتم المتناثرة, صار يأخد نفساً عميقاً ويمد يديه متشابكتاً الي أعلى بتكاسل حتى شعر براحة مؤقته.
الوحدة كلمة لايعرف لها معنى ربما لانه تربى على ان يكون وحيداً حتى صارت تمر الايام ولايتحدث الا مع نفسه ومع الناي الذى صنعه منذ سنوات ولايزال يحتفض به ويخفيه عن نظر ابيه الذى لايقتنع ولا تدخل الى رأسه أشياء كهاذه .
مر وقت طويل وأخدت الشمس مقعدها متربعتاً على كبد السماء فأخد الاغنام بعد أن سقاها الماء ورويت الي ظل أشجار الزيتون المتشابكة القديمة والتي تحكى له سير أجداده الذين مروا عليها والتى يعرف بأنه سيمر عليها هو كما مر غيره ,,غفاء وأخد قيلولة قصيرة بجسم منهك من لاشىء عدا التفكير .
بداء صوت (البوزنان) يرتفع ويؤرق أذناه بعد ان كان من ذى قبل لايسمعه أبداً لانه كان لايعير له أى اهتمام
لماذا فى هذا الوقت فقط صرت أسمع وأتضايق من هذا الصوت المدوي؟
تسآل بينه وبين نفسه هل البوزنان يأن من شدة الحر أو أنه مثلي يأن من أشياء تؤرقه؟
هنالك وبعد إقتراب المغيب سار الي حيث العودة وطيور الحجل كذلك بدأت تنادي على بعضها كي تأوي الي أوكارها السرية داخل (القندول )و (الدرواي)
وجد أبيه وأخيه فى البيت سلم عليهم وهو يعرف مسبقاً عدم الرد من الاب الا ان اخيه رد عليه بصوت خافت اقرب الي الصمت وكأنه لايحب أن يسمعه أبيه لانه متعود على عدم سماع أى تحية من الاب منذ صغره ربما لقسوة فى قلب أبيه جُبل عليها نظراً لنشأته البٌرية جداً والبعيدة عن الحياة المدنية والحضرية.
بعد أن تناول عشائه مع أخيه امحمد الذى يكبره بسنتين جلسا على البئر وكان الاب قد نام وطلب منهم عدم السهر
تحدثا كثيراً وتسامرا وكان يسرح بتفكيره كثيراً طيلة مكوتهما فلاحظ اخيه هذا التغير فيه فكان يسأله الا انه يتجاهل فى كل مرة .
فكر حامد أن يقول لاخيه على الموضوع الذى أرقه كثيراًوالذى جعل قلبه يترنح مع نغمات النسمات على جريد النخلة المجاورة للبئر.
أخيراً إستجمع شجاعته بعد أن جمع الكلمات المناسبة وأخبره عن تلك التى رأها على بئر القرية والتى نظرت اليه بعينين صوبت عليه اسهم لم يستطع تفاديها .
لم يفهم أخيه بدايتاً ولكنه عندما عرف بداء يضحك كثيراً ثم قهقه اكثر فأغلق له حامد فمه خوفاً من أن يسمعه ابيه وبعد بره قال وماالمشكلة؟ غداً سأكلم أبيك ربما تصير من نصيبك مع أني أعرفها وأعرف أهلها الذين لايطيقهم ابيك ابداً..
هذه هى المشكلة قالها حامد بصوت فيه ألم...
وفى الفجر وعند قن الدجاج كان الاب يفتح لها الباب كى تخرج وتسرح وتبحث عن رزقها إقترب منه امحمد بشجاعة غير معهودة لانه يعرف أن مايقوم به او ماسيقوله من مصلحة أخيه الوحيد .
تحدث معه عن الطقس بدايتاً ولكن الاب تجاهله تماماً,,ثم عن الدجاج وعن الديك الذى افترسه الثعلب فى الاسبوع الماضى فقال أبيه سأحضر ديك آخر...
لم يعرف كيف يدخل فى الموضوع الا عن طريق الديك فقال ومافائدة الديك وهولايبيض؟
فرد الاب (ياغبي وكيف سيتكاثر الدجاج بدون ديك؟)
فقال الابن (ونحن كيف سنتكاثر؟)
نظر اليه الاب بإزدراء وقال له عندما ازوجكم ستتكاثرون ,,,,
هذه هى الفرصة السانحة هذا ماجال فى بال الابن..
إذن فالنزوج اخى..
فضحك الاب بإستهزاء وقال أنت الأكبر
أعرف ولكنه وجد عروس
وجم الاب قليلاً ثم أحب أن يستفسر(ومن هى؟)
إنها إبنة الحاج حمودة يريدها أخى
ذهب الاب مسرعاً الى حيث يرعى حامد الغنم وامحمد على إثره
وصل إليه ومسكه من رقبة قميصه المهترى (رد بالك تفكر حتى التفكير)
وهل سأفعل عيباً؟
فار الدم فى وجه الاب وبدأت عروق وجهه تبرز واحمر وجهه ورفع عصاه وهوى بها على كتف حامد الذى بدأت دموعه تسيل بغزارة على خديه السمراء.
ذهب الاب غاضباً وبقى حامد جاثى على ركبتيه ومعه اخيه يحاول أن يخفف عنه ويهدىء من روعه...
ومع حلول الظلام رجع الابناء الي البيت وتجاهلهم الاب تماماً ..
جلسا طويلاً حتى السحر وفى كل الوقت الطويل الذى مر وحامد المسكين لم يتفوه بكلمة.
امحمد لم يستطع مقاومة سلطان النوم فذهب يترنح الى فراشه..
بقى ذاك المهموم يفكر حتى كاد يصل الى الجنون...
فجراً او قبل طلوع الشمس بقليل امحمد يجرى الى ابيه ويصرخ بشدة (البييير حامد حامد حامد )بتلعثم...
ماذا ماذا حصل ؟؟؟ الاب فى دهول!!!!
سقط فى البئر..
حافى القدمين الاب وكذلك الابن حتى وصلا الى البئر ,,قفز الاب وانتشل ذاك البدن النحيل الهزيل والذى ازداد سواداً وطرحوا على البئر بارداً بلا حراك...
فى تلك اللحظة نظر امحمد الى وجه ابيه وأصيب بدهول أكبر من دهوله بفقدان أخيه الوحيد !!!
نعم لقد رأى دموعاً تترقرق فى عيني أبيه.